الهجرة النبويّة
تُعرّف الهجرة لغةً على أنها الخروج من أرضٍ إلى أخرى، أما الهجرة النبوية فهي انتقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين من دار الكفر في مكة إلى دار الإسلام في المدينة المنورة،[١] وقد كانت الهجرة النبوية فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية، وهما المرحلة المكية، والمرحلة المدنية، وانتقالاً من حالة الضعف إلى حالة القوة، ومن حالة الجمود إلى الحركة، ومن حالة التفرّق إلى الوحدة، ومن حالة القلّة إلى الكثرة.
أسباب الهجرة النّبويّة
لم يكن خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة حدثاً مفاجئاً بالنسبة له، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- يعلم منذ بداية بعثته أن قومه سيخرجوه، فعندما نزل عليه الوحي لأوّل مرةٍ ذهب بصحبة زوجته خديجة -رضي الله عنه- إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ووصف له ما رأى، فقال ورقة: (هذا النَّامُوسُ الذي نَزَّلَ اللَّهُ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فيها جَذَعًا، لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ، قالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.
ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ ورَقَةُ أنْ تُوُفِّيَ)،[٣] وقد سبق الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة عدّة هجرات، حيث خرج من مكة عشرة رجال وخمسة نساء مهاجرين إلى الحبشة، ثم هاجرت جماعةٌ أخرى من المسلمين إلى الحبشة، وهاجر النبي -عليه الصلاة السلام- إلى الطائف وحيداً، وأخيراً كانت الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، وكان لهذه الهجرة العظيمة العديد من الأسباب، وفيما يأتي بيان بعضها:
عدم تقبّل مكة لدعوة الإسلام:
على الرغم من حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورغبته بإسلام أهل مكة، وبذل قصارى جهده في دعوة قومه من خلال استعمال كافة الوسائل والطرق المتاحة للدعوة إلى الله، حيث قال الله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّـهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)،[٥] إلا إن أهل مكة أصرّوا على شركهم وأعلنوا العداوة للإسلام، فاضطرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للبحث عن مكانٍ آخر يكون أكثر تقبّلاً لدعوة الإسلام، وكان ذلك المكان المدينة المنورة.
استعداد المدينة المنورة لقبول دعوة الإسلام:
بعد بدء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبحث عن مكانٍ أكثر قابليةٍ لدعوة الإسلام؛ لقي جماعةً من أهل المدينة عند العقبة في موسم الحج، وكانوا ستة رجالٍ من الخزرج، فدعاهم إلى الإسلام، واقتضت إرادة الله -تعالى- أن هؤلاء النفر قد سمعوا من جيرانهم اليهود في المدينة أن الله -تعالى- سيبعث رسولاً وقد حان وقت بعثته، فقالوا لبعضهم البعض: “هذا والله الذي تهدّدكم به يهود، فلا يسبقونا إليه، فآمنوا به وبايعوه”، ثم عادوا إلى المدينة المنورة، وانتشر خبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هناك حتى لن يبق بيتٌ إلا دخله ذكره.
وفي العام التالي قدِم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفدٌ من الأنصار فيه اثنا عشر رجلاً، وبايعوه عند العقبة بيعة النساء، ولما رجعوا إلى المدينة أرسل معهم النبي -عليه الصلاة والسلام- مصعب بن عمير -رضي الله عنه- ليعلّمهم القرآن، ويدعوا إلى الإسلام في ديارهم، وفي العام التالي قدِم إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- عددٌ كبيرٌ ممن أسلموا من الأنصار، والتقوا به عند العقبة في أواسط أيام التشريق، وبايعوه على أن يحموه ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، وأن يخرج إليهم هو والصحابة رضي الله عنهم.
الاضطهاد والابتلاء:
من أهم أسباب الهجرة من مكة إلى المدينة تعرّض المسلمين في مكة للاضطهاد والتضييق عليهم في عبادتهم لله تعالى، فكانت المدينة المنورة بمثابة الملاذ الآمن للدعوة، لأن سبب وجود الخلق عبادة الله تعالى.
أثر اهجرة الشرعية علي المسلمين:
لم تقتصر آثار ذلك الحدث العظيم على المسلمين في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- فحسب، بل شملت المسلمين في كل زمانٍ ومكانٍ، لا سيّما أن أحكام الهجرة لم تنسخ، وهي صالحة للتطبيق في أي زمانٍ أو مكانٍ يكون فيه حال المسلمين مشابهاً لما كان عليه حالهم عندما هاجروا إلى المدينة المنورة، ويمكن القول أن الهجرة تكون ماديةً بالانتقال من دار الإسلام إلى دار الكفر، وقد تكون شعورية بالانتقال من حالٍ إلى حالٍ؛ كالانتقال من حالة التفرقة إلى حالة الوحدة، أو بالانتقال بالدعوة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.
نتائج الهجرة النبوية
كان من أهم نتائج الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة إقامة الدولة الإسلامية الأولى، حيث كانت أوّل دولةٍ يقيمها رسول في الأرض، وذلك لأن الإسلام دينٌ يجمع بين العبادة، والتشريع، والحكم، ونتج عن ذلك تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى، فلم يعدْ هناك أصنام تُعبد، ولا اعتقادٌ بالتمائم والسحر والشعوذة في المدينة المنورة، وتمّ أيضاً توطيد الأخوّة ووحدة الصف، حيث إن العلاقات في مجتمع الدولة الإسلامية قامت على أساس الأخوّة الإيمانية من منطلق قول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّـهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).[٧][٨]